وداعا للسلام

يقول المفكر الامريكي "نعوم تشومسكي" ان اول دعاية حكومية حديثة , كانت في عهد الرئيس "وودرو ويلسون" الذي انتخب عام 1916 وكان شعاره الانتخابي "سلام بدون انتصار" وكان الشعب الامريكي في تلك الفترة ميالا للهدؤ والسلام ولايحبذ التورط في حرب اوروبية , ولكن ادارة ويلسون التزمت بالدخول في تلك الحرب , وكان عليها ان تقنع شعبها الراغب في الهدؤ والسلام بالحرب .
اسست ادارة "ويلسون " لجنة "كريل " للدعاية واستطاعت تلك اللجنة ان تقلب الراي العام الامريكي في غضون ستة اشهر الى شعب يعاني هستيريا الحرب , يتاجر بها , ويروج لها ويريد تدمير كل شيء الماني .
الكاتب الامريكي الحائز على جائزة نوبل للاداب "ارنست هيمنغواي " كان احد ضحايا لجنة "كريل " فلقد انخرط في تلك الحرب في ايطاليا , وكتب بعدها روايته الشهيرة "وداعا للسلاح " ثم التحق بعدها بالحرب الاسبانية وكتب "لمن تقرع الاجراس " .
في " وداعا للسلاح " يلتقي سائق الاسعاف الامريكي بالممرضة الانجليزية في احد مسارح الحرب العالمية الاولى , يدخلان الحب وهما تحت القنابل والرصاص ليكون الحب ملجأ من ملاجيء الحرب "غير الحصينة " بالتاكيد , فهو ورغم الحب يصاب بشظايا قنبلة وهو يتناول الخبز والجبن , ويرى اشلاء احد الجنود القريبين منه وهي تتناثر في الهواء ويختلط الخبز والجبن بالدم والاشلاء !!
بطل " وداعا للسلاح " الامريكي المشبع بكل قيم الليبرالية والطهرانية الامريكيتين , يشعر بعبثية الموت , وعدمية الحرب وهو نزيل احد المستشفيات لعلاج جراحه اثر
مواجهتة العبثية مع الموت .
بطلة "وداعا للسلاح " الانجليزية البسيطة والمشبعة بكل تقاليد انجلترا الديمقراطية تتعلق بالبطل الامريكي وترى فيه ما تبقى لها وللعالم من نبل وعدل وانسانية , انه الابن الحقيقي لكل القيم التي تعلقت وامنت بها , ان سائق اسعاف الانسانية بعيدا عن ساحات المعارك وجراحها لايصاب بحب ممرضة جرحى المعارك فقط , بل يصاب بجراح شظايا قنابلها المتساقطة في كل مكان لتنكب ابنة ديمقراطية انجلترا على مداواة جراحه الروحية, ليرى فيها طوق النجاة من الحرب ومن الموت ,وترى فيه ليس مريضها بل معالجها من كل الآم وعذابات الحرب والدمار ومنقذها من ذاك الجحيم البشري الرهيب .
هناك على ارض ايطاليا , حيث ولد وترعرع عصر النهضة وكبر دافنشي ومايكل انجلو والرشديين " اتباع الفيلسوف العربي ابن رشد في اوروبا " وغاليليو , تلتقي كل تحولات اوروبا الكبرى , يلتقي عصر النهضة شاهرا مدافع دافنشي ودبابات مخياله المذهل ومسيح مايكل انجلو المتجبر بردائه الاحمر القاني وهو يشق في "لوحة القيامة" البشرية الى فسطاطين, فسطاط حطب جهنم وفسطاط سعداء الجنة , يلتقي ارث تلك الجغرافيا الرومية بحفيدة كرومويل والماجنا كارتا ومجلس اللوردات والعموم , بالطهراني الامريكي , يلتقون جميعا , يحشرون ككنز رمزي في تنور الحرب والموت .
سلام بدون انتصار هذا ما يعود له بطلا همنغواي رغم تخلي الرئيس الامريكي ويلسون عنه , ويرى كل منهما نجاته ونجاة العالم في رفيقه الأخر, يرى الطهراني الامريكي النجاة في شعار "وداعا للسلاح" وترى ابنة ديمقراطية بريطانيا النجاة في ذلك الليبرالي الامريكي الشجاع .
كانت نتيجة هذا الحب والألم حملا سفاحا , بذرة الليبرالي الامريكي تنمو جنينا في رحم الانجليزية الطيبة التي تحاول مقاومة عبث الحرب والقتل بالتمريض , ولكن هل بامكان الأم والرحم ان يحافظا على هذا الجنين وسط الحرب والموت .
على نهج فولتير يهربان الى ارض محايدة , ارض لاحرب فيها , الى سويسرا ملجأ القيم الديمقراطية الأخير , ليولد الجنين ويولد مستقبل لا سلاح فيه , هكذا خططا ونفذا من اجل مستقبل انساني لجيل جديد .
امام غرفة التوليد بمستشفى سويسري ينتظر الطهراني الامريكي ميلاد ابنه وابن الانجليزية الملائكة قلقا ليخرج له الطبيب السويسري ويخبره بان السيدة انجبت طفلا ضخما ولكنه ميت , طفل بحجم الطهرانية والاحلام ولكنه ميت , لتموت الأم بعده مباشرة , ليغرق الليبرالي الأمريكي المتشبت بالسلام والديمقراطية في العدم تاركا كل شيء للجنة "كريل " وصناعة الراي العام وهستيريا الحرب , لدبابات دافينشي ومسيح " يوم القيامة" المتجبر بردائه ألأحمر لمايكل انجلو والذي وكما "بوش الابن" يقسم العالم و الناس الى فسطاطين " معنا اوضدنا" وليظل الشعار الليبرالي الامريكي الدائم "وداعا للسلام " وليموت همنغواي نفسه منتحرا برصاص مسدسه بعد مغامرات طويلة للصيد والقتل في غابات افريقيا وفي بحر كوبا وليتحول صيده الضخم ايضا الى فريسة لاسماك القرش النهمة .
كان السلام والديمقراطية لافتة الراسمالية بعد الحرب العالمية الثانية التي صفق لها وتبناها كل مثقفي ومناضلي اوروبا والعالم والتي سقطت مباشرة مع تكشير تلك الراسمالية عن انياب اطماعها الجديدة ودخولها مباشرة في حربها الجديدة ضد الشعوب والقوى التي كانت تطالب بالاستقلال والعدل ,لينفض من حولها غالبية المثقفين ويغرقوا في العدم والتشاؤم ,ولتتفجر ضدها ثورة الطلاب كانتفاضة روح تذبح ثم تستسلم للمخدرات والاستهلاك.
كانت الشعارات براقة والاحلام كانت بحجم الكون لتكون الخيبة اكبر واعنف .
كل هذه المشاهد يصر المثقف العربي اليوم على اعادة انتاجها وادائها بتفان عجيب, يعيد تمثيل دور الطهراني المخدوع ,ضحية النيران الصديقه, متناسيا نتائج "موسم هجرته للشمال" حيث يقتل المثقف العربي الافريقي المسلم بالخنجر "اداتنا النضالية الموروثة" يقتل "ابنة بريطانيا وديمقراطيتها" التي اشتهى فاكهتها وما احبها ابدا , وكانت النتيجة علاقة مبنية رغم كل النفاق على الشك والكره والتربص للقتل, علاقة مثلها وان تناسينا "مصطفى سعيد" بطل "موسم الهجرة للشمال" المثقف العربي المسلم ذي النشأة والثقافة الانجليزيتين , الذي يحفظ "شكسبير" عن ظهر قلب , ويرى نفسه "فيروس ايدز" زرع في ذلك النسيج الحضاري الاستعماري ليدمره.
يعودون بمختلف حللهم وازيائهم,ليخوضوا حربهم ضد اي مشروع للسلم الاجتماعي, وللديمقراطية انتقاما من "اوروبا" على رمال صحرائنا وبخناجرنا ورقابنا ,هاتفين " وداعا للسلام", متجاوزين طهرانية الامريكي الذي كتب "وداعا للسلاح" .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قيل عن بــرقة "سُمع عمرو بن العاص يقول على المنبر في أهل برقة: هم أصحاب عهد إن عاهدوا".

صب المر كان المر طاب .. مفيش امر من فرق الأحباب

هذا زجاج من صحراء ليبيا غالي الثمن ومستكشف حديثا وله سمعة في سوق المعادن الثمينة