درنة رواية يا نا علي للكاتب المبدع محمد الاصفر



درنة.. درنة.. سيدة الماء..
ما أروع أن تبحر في رحم كلُّه من الماء،
 أساسه صوارٍ، وسقفه سماء،
جدرانه من المسك والعنبر،
وبابه قمقم ممسوس بمفتاح سليمان..
مملوء بالأصداف والمحار، زاخر بالياقوت واللآلي،
ممزوج بصخب الأمواج! أنا الآن على شاطئ بحرها.
 حقيقتي التي أحبّ تركتني، والنوارس في الأفق تواسيني..
تصبِّرني بخفق أجنحتها. ما أمرّ أن تتركك حبيبة حقيقية!
 لكن، آه.. لقد تعوّدت على تجرُّع المرارات،
 حتى صارت المرارات تعتبرنا حلاوة.. ها هي تهزهز رأسها، وترفع خصلتها من أمام عينها اليسرى، تحملق بي هادئة. آه من كرمشة الجنون بين حاجبيها! تتأملني ذاهلة من تأثير غيابها، تتأمَّلني راضية متفهِّمة جنوني الخلّاق. ها هي ترتق ضعفي بنظرة تجاوز، فـيما رذاذات الأمواج العالية، تتغـنّى بنزف صديقي الشاعر الرقيعي الذي يقول لي: لا تزعل. ليس الحبيبات من يجرحن فقط، حتى النوارس أيضاً.
الوصول من بنغازي إلى درنة لن يكلِّف سوى عشرة دنانير، 300 كيلو متر شرقاً في سيارة أجرة وتجد نفسك في قلب درنة، قرب مسجد الصحابة، يمكنك أن تترنَّم قائلاً: وها أنا ذا في درنة، مطرقاً أسير على التراب، يداي في جيبي، السماء زرقاء فوقي.. مقطفي على كتفي، أسلاك الكهرباء تلسع الفضاء، أسير في ظل اليسار، في زنقة الحب العتيقة، يميني حائط مشمس متقشِّر، أمامي باب أسود يفضي إلى سوق الظلام، أرتدي سروالاً أزرق و(تي شيرت) بطاطسي وحذاء بلون القار. السروال من دون حزام، والحذاء من دون جورب.
ولابد من زيارة مسجد الصحابة، وقراءة الفاتحة والدعاء، والتأمُّل في لوحة تسرد تاريخ المسجد وقصة الشهداء الصحابة المدفونين فيه. تقول القصة إنّ مدينة القيروان تعرَّضت إلى غزو من الوثنيين، فأرسل لهم خليفة المسلمين قائده الصحابي زهير بن قيس البلوي في كوكبة كبيرة من رجاله، هزموا الوثنيين البربر وعادوا إلى المشرق. في طريق عودتهم تعرَّضت درنة لغزو من أسطول بيزنطي، فهرع زهير وصحبه السبعون إلى نصرتها، أبلوا البلاء الحسن، واستشهد زهير صحبة رفيقيه الصحابيين أبي منصور الفارسي، وعبد الله بن برّ القيس المُلقَّب بالزوّام، مع سبعين من الصحابة الأتقياء رضوان الله عليهم جميعاً.
مسجد الصحابة منارة كبيرة للعلم والعبادة، فيه مكتبة إسلامية تحوي العديد من المخطوطات والكتب القيمة. المسجد وملحقاته الشريفة مزار يومي، تُقرأ فيه صلاة دائمة على أرواح الموتى والمواليد، وتُكتب فيه عقود القِران، وتُعقَد فيه مجالس الصلح، كذلك تُقَدَّم فيه التعازي لأهل كل موتى المدينة، وتنتظم داخل أروقته الاحتفالات الدينية والمشاورات فيما ينفع البشر في دنياهم وآخرتهم في داخله.
لكن، بعد ثورة 17 فبراير، بدأت المدينة تكتسي بملامح جديدة، الحرية التي نَشَدَها الناس من خلال الإطاحة بحكم القذافي ليس هي المتوافرة الآن، درنة المدينة الوحيدة في ليبيا التي سيطرت عليها الجماعات الإسلامية سيطرة كاملة، لا محاكم، لا مراكز شرطة، لا معسكرات جيش، لا مراكز انتخابات، حرمت المدينة من ممارسة واجبها في الانتخابات، اغتيالات كثيرة حدثت بها، تَمَّ هدم الأضرحة في المدينة، حتى روضات الصحابة تَمَّ هدمها وتسويتها بالأرض، أزورها الآن لأعيش الكآبة والحزن. الأصدقاء كما هُمْ، غير أن المدينة ليست هي، في النهار الأجواء هادئة، في الليل تسمع أصوات الانفجارات، في ساحة البياصة الحمراء. الأجواء جميلة. قهوة عربية لذيذة، تنسيك الحزن، وتُسرِّب لك اطمئناناً دافئاً، يذكِّرك بعبق درنة القديم، برائحتها الحاضرة في كل شيء، درنة مدينة الأزهار والتاريخ، المدينة الوحيدة التي ينبت فيها الموز، المدينة الشهيرة بشلّالها العذب، أكتب الآن في مقهى صغير اسمه مقهى العتيق في ساحة وكالة الطرابلسي، ساحة جميلة على الطراز الأندلسي، تتوسَّطها نافورة ماء، وتحفّ بجوانبها شجيرات البرسيانا والدفلي، تفتح إلى داخل الساحة حوالي عشرة دكاكين، أغلبها مقفل. ما يعمل منها ثلاثة محلات فقط. مطعم سيدي عبد الكريم الطرابلسي، هو رجل كهل، أبيض الشعر، وسيم الوجه، صارم الملامح، يُعِدّ للزبائن شطائر لذيذة محشوّة بالتونة وجبن الشرائح ومهروس الفلفل وحبيبات الزيتون. بين المقهى والمطعم يوجد مَحَلّ أثري قديم بابه أخضر من النوع المسمّى بوخوخة. مدخله على هيئة قوس، وهو مَحَلّ للطب الشعبي. صاحبه الدوّاء الحاج محمد كحّيل، يرتاده عدّة شيوخ وحتى شباب رياضيون.. يعرّون ظهورهم المنهكة من البرد، فيضع لهم الحاج (المغائث) وهي علب معدنية بحجم طاسة الشاي توقد داخلها نار، وتُكفأ على الظهر بإحكام، فيمتصّ اللهب المحتضر داخلها، قبل أن يخبو، بعضاً من فسادة الدماء.
تناولت شطيرة تونة حارة ساخنة، وطلبت من النادل قهوة مزبوطة وكوب ماء، وعشت أتأمّل مشهد المطعم. الدكان مزدحم، وصاحبه يعمل وحده، يقطع قليلاً من رأس رغيف الخبز، يشق بطنه، يلحّسه بمهروس الفلفل، يحشوه بالتونة المخلوطة بزيت الزيتون وشرائح الطماطم، ثم يزيل غشاء البلاستيك عن شريحة الجبنة، ويضعها في الرغيف.
الزبائن كثر.، لكنه لا يعطِّل أحداً. صاحب شطيرة واحدة لا يجعله ينتظر طويلاً. يمنحه شطيرته ونظرة شهامة للآخرين، يعمل بخفة ومهارة ما شاء الله، يعمل كعاشق يعامل حبيبته بودّ. لا زيت يسيل من الشطيرة، لا اعوجاج في شقّ بطنها، البنطلون أبيض نظيف، القميص أزرق بلون السماء، الشعر حليق، النظارة بنية شفافة، الأظافر مشذَّبة، محارم الورق مصطفة بعضها فوق الآخر، سُفَر التقديم لامعة مورّدة، ترى فيها وجهك.
الزبائن يتناولون إفطارهم، ثم يغسلون أيديهم بماء النافورة الظليلة بفروع برسيانة الورد الأحمر الممتدّة دونما انتظام. أترك المطعم متوغِّلاً في شارع الكنيسة القريب، حيث يوجد بيت درنة الثقافي: مبنى أثري من طابقين، سابقاً كان كنيسة، ساحة العبادة حوّرت إلى مسرح. في الشارع نفسه توجد الزاوية العيساوية المُشَيَّدة عام 1625. بجانبه مغسلة، وخياط، ومعطرة، ومحلّ عصافير. في أحد الشوارع الفرعية المقابلة يوجد كنيس اليهود. الآن حُوِّر إلى زاوية تتبع الطريقة التيجانية. في شارع آخر يتفرَّع من شارع الكنيسة يوجد الجامع العتيق أو الكبير الذي فيه شعرة من شعرات رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهديت إليه من السلطان في إسطنبول. اختفت الشعرة في العقود القريبة الماضية. الفاشي موسيليني سبق أن زار هذا الجامع الكبير وأهداه ساعة حائطية وبعض المال. الجامع الكبير مسجد جميل تعلوه عدة قباب، أعتقد أن عددها ثمان أو عشر. لم أتعود َعّد القباب الأكثر من اثنتين. بنيانه عالٍ شامخ رُفِع على أعمدة إغريقية ورومانية جُلِبت من مدينة سوسة أبولونيا القريبة.
زنقة سيدي علي الوشيش، وزنقة الجامع العتيق، وزنقة كنيس اليهود، وزنقة زقاق صوّان كلها تفضي إلى سوق الظلام. في هذه الشوارع بقية باقية من بيوتات قديمة مصانة حديثاً. عرائش العنب القديمة مازالت تدلي بسوالف حكاياتها من واجهات وشرفات المباني. أشجار التين الضخمة تجدها في كل شارع. فروعها المورقة تمتد بغنج التمطّي، وتتمايل صانعة للمارّة سحابة ظلّ معطّر، ولبلبة شجر مرغِّبة في المسرّات.
في درنة حَطّ الأندلسيون رحالهم، هي جبل ووادٍ وبحر، كما بلاد الأندلس، جلب إليها الأندلسيون معمارهم المتميِّز بالنوافير والشرفات الخشبية، واستغلّوا ماء شلالها في الزراعة عبر نُظُم رَيّ، ما كانت ليبيا تعرفها من قبل، نظام السواقي الذي يمر على كل البيوت وعلى كل المزارع، ليمنحها الحياة، كان العشاق يرسلون رسائلهم ورموزهم وتمائمهم عبر الماء، فتصل بأمان، لا عاشقة تمسّ بريد ماء أخرى ولا عاشق يمسّ بريد عاشق زميل. في بطن الوادي الذي يشق درنة نصفين يمكنك أن تشاهد مغارة كبيرة تتوغَّل داخل الجبل مسافة طويلة تسمّى الجباخانة، كانت مخزناً للبارود في العهد العثماني، وملجأ من الفيضانات ومن القصف في أثناء الحرب العالمية الثانية، والآن يستخدمها الفتيان لتعلُّم العزف على المزمار، حيث تطلق جدرانها صدًى شجياً لصوت المزمار، وكل عازفي المزمار الماهرين في درنة كانوا قد تعلَّموا العزف في هذه المغارة التي تُعَدّ أكاديمية للموسيقا الشعبية دون أساتذة أكاديميين.
درنة المدينة التي اتخذها الجمال موطناً له: الأكلات جميلة، الزهور جميلة، الفتيات جميلات اللكنة، المسرح جميل، الغناء جميل، كرة القدم جميلة حيث طريقة التيك تاكا التي اشتُهر بها (برشلونة) هي طريقة لعبهم منذ الستينيات، حيث يلعبون الكرة للمتعة أكثر من الفوز، الفرق الأخرى تسميهم (الزرادة)، أي الخارجين في رحلة بحر أو ربيع، تاريخ المدينة عريق جداً، ولها انتصارات على البحرية الأميركية في حقبة القره مانلي (حرب السنوات الأربع). مدينة لا تحتاج إلى فخر، بل إن الفخر هو الذي يحتاجها.
الشِّعْر كذلك على درجة عالية من الجودة والعذوبة والألم. أجدني أتغنّى- لا شعورياً- بقصيدة شاعرها عبدالسلام العجيلي: «هو ظل فاجأه النداء/ تركه معلقاً في آخر الزقاق/ وهي عاصفة هودجها الغبش/ غناؤه خيط من الرمل/ وسعال قديم/ فاقتربي أيتها العاصفة/ هذا النافر وطن لأصابعي/ وذلك القرمزي الصغير نهر لمراكبي/ أنا المشواشي التعيس/ سليل آلهة الرماد/ أعرف كيف أنضج فاكهتك العنيدة !/ وكيف أرسم الأدغال/ والطبول على أغطيتك الشتائية/ أدعوك للرقص في مواسم الجدب/ وأرتديك في ظلام الجوع/ وجهاً ورغيفاً/ صدري تابوت لألوانك البعيدة/ بيني وبينك ملح بليغ/ آه/ كيف أكمل فيك أغنيتي؟!/ والمدينة أهدرت قميص نومها/ ووهبت نعاسها للريح».
عند الأصيل لابد من جولة في الشارع الرئيسي بالمدينة، شارع الشاعر إبراهيم الأسطى عمر والمُسَمَّى- شعبياً- شارع (وسّع بالك)، شارع اتجاه واحد، والسيارات تسير فيه ببطء بسبب المحلات التجارية الكثيرة. كل من يطلق منبِّه سيارة مستعجلاً السيارة التي أمامه يقول له سائق السيارة الآخر: وسّع بالك. الآن المدينة مازال بالها يَتَّسع، لا ندري متى ينفجر أو يضيق؟ لقد اتَّسع لـ 42 عاماً من الديكتاتورية، وها هو يتَّسع 4 سنوات لثورة لم تحقِّق أهدافها، وباتت تضيع وتتلاشى بسبب العنف،

أتَّكئ على سور تاريخي في الشارع، تحته دُفِن رأس زعيم قبيلة العبيدات،

كان قد قاوم الأتراك، وامتنع عن دفع الضرائب لهم. أتمتم ببيت شعر يخلِّد السور والزعيم والمدينة للشاعر البانكة يقول:

سلامات يا درنة حلال مزارك..
رأس جدنا مبني عليه جدارك

أترك شارع (وسِّع بالك)، وأدخل يميناً إلى شارع حشيشة الذي فيه البريد، والذي ينتهي إلى البحر حيث ضريح سيدي بوعزة، والمنارة البحرية أوالفنار. سيدي بوعزة هُدِم تطبيقاً لفتاوي دينية توصي بتسوية القبور مع الأرض. أقطع طريق الأسفلت مواصلاً المشي حتى توقفني مسدّة صخرية ذات رؤوس ثلاث، يصفعها موج قاسٍ. وجدتني جلست على مسدّة صخرية، أنـفث سيجارتي، أقايض بهار الرذاذ بالزفير المتـبوغ. وكان البحر يتألم، ويرطم المسدّات، رغم أنّ قدمي لا تدوسانه، وعندما قاربت سيجارتي على الانـتهاء لم أكوِ البحر، وكويت نفسي.. على مرأى من أفروديت.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قيل عن بــرقة "سُمع عمرو بن العاص يقول على المنبر في أهل برقة: هم أصحاب عهد إن عاهدوا".

صب المر كان المر طاب .. مفيش امر من فرق الأحباب

هذا زجاج من صحراء ليبيا غالي الثمن ومستكشف حديثا وله سمعة في سوق المعادن الثمينة