فى الذكرى 23 للنيهوم.. ماذا جرى لقوقعة السلحفاة ؟!


 عندما اكتشف الصادق النيهوم عدم صحة مقولة "أن الكلمات تتغدى على التجارب" ، قرر أن يدق نفسه كمسمار فى الأرض التى ولد فيها.. وهكذا تحول من كاتب سوق الحشيش إلى مطبُوعٍ ومقروء فى بيروت والقاهرة وعمان والرباط وتونس.. ومترجَم الى لغات تغطي القارات الخمس. لم ينطلق كطاووس أحمق لا يرى إلا ظله، إنما انطلق بهدوء وبكلمات كان يخاطب فيها رفيق غرفة "سيدي حسين".

كان يشاغب "جانقي" أو خليفة الفاخري كما فى الاسم الطويل لقامة أخرى طويلة.. فأصبح يبتسم لمشاكستهما القارئ من مقهى الفيشاوي بخان الخليلي وحتى أنفاق ميترو لندن، وصولاً إلى قُراء مقاهي الشانزليزيه.. لقد انطلق "نجل بنغازي" برفق الواثق مثلما تفعل الطائرات العملاقة لتصل الى أقصى سرعتها متى تحين لحظة الإقلاع .. انطلق وهو يردد (..أرجو أن لا ينسى أحد أن ما أقوله فى الأيام القادمة يعني بكل إخلاص ثلاث كلمات فقط "هذه تجربتي أنا"..).

من يقرأ الصادق الساخر من كل شيء، ربما سيكتشف بيسر أنه اصطدم مباشرة بصلابة وعمق وتجذر "ثقافة" لا يمكن معها جر المجتمع بسهولة إلى حيث تكمن المدينة الفاضلة أو حتى المدينة الفاصلة بين الحقيقة والأسطورة.. وربما من هذه الزاوية قرر أن يعيش ويكتب ما يعتقد دون أن ينتظر الكثير من النتائج.

ذات يوم من بدايات العام 1969 قال مخاطباً أدباء وكُتاب المغرب العربي: (.. إذا كان هدف الكاتب أن يجعل مجتمعه يمشي خطوتين بدل من خطوة واحدة، فلابد أن تكون أسوأ مشكلة تواجهه فى بلد متخلف هي أن أحداً من حوله لا يرغب فى المشي على الإطلاق..). كان يعرف أن مهمة المثقف الراغب فى تحريك المجتمع، أصعب من مهمة المحارب.. 

وصف سقراط ذات مرة فى إسقاط على ما يمر به، فقال ان يوم ولادته قامت القابلات بلفه فى حزمة من الصوف الأحمر من أجل أن ينشأ محارباً قوياً.. ولكن سقراط تحول إلى فيلسوف مهمته اقتحام رؤوس الآخرين، "وهي مهمة أكثر قسوة من اقتحام أسوار المدن". كانت الرؤوس أو الأدمغة هدفه.. تنازعها و"الفقي" تارة.. و"الزروق" تارة أخرى..

 نعتها بالقلعة المغلقة بإحكام والمحاطة بالأسلاك الشائكة والحرس الذي لا يمكن رشوته.. ووصفها مرة أخرى بأنها أقسى من عظم قوقعة السلحفاة.. وخِلته كما لو أنه رمى بقلمه بعيدا بعد أن كتب، من أجل أن تفتح هذه القوقعة "مات ألف نبي.. وأنزل الله ثلاثة كتب مقدسة.. وشرب مليون فيلسوف كؤوس السم الحاد". حاول مراراً وفى الكثير من مقالاته وكتبه أن يحدد أس العلاقة المرتبكة بين الكتلة أوالقلعة الصماء والفيلسوف.. قال فى إحداها: "..الكاتب لا يشعر بالعداء تجاه مجتمعه، بل تجاه العوائق الثقافية غير الخصبة التي تعوق تحقيق التقدم.. والكتلة لا تشعر بالعداء تجاه الكاتب لأنها تعرف يقيناً أنه يسعى إلى الإساءة إليها.. بل لأنها تعرف يقيناً أنه يهدف إلى إعطائها أفكاراً أفضل..". هكذا حدد الصادق الصراع بين من وصفهم بـ"الراغبين فى الإصلاح والكتلة المهترئة ".

رغم كل ما وضعه نجل بنغازي من أوصاف قد تبدو قاسية وشديدة الألم، إلا أنه حاول فى بعض المرات أن يترك الباب موارباً حيث كتب مدغدغاً الحلم ومستدرجاً الأمل للبقاء بيننا: "..الفرصة الوحيدة والأمل الذي لا شيء وراءه تحمله الكتب وحدها.. تلك الأوراق القادرة على النقاش الجيد فى ضوء شمعة أو ضوء الشمس.. والتى تحمل الفضيلة منذ أن حفر القسس أول كتاب فى حجر بابلي بمطرقة ومسمار صدئ.. الى أن دارت المطابع العملاقة..".

فى ذكرى وفاته الـ23..لا أدري ماذا سأقول للنيهوم عن وضعية "القوقعة" اليوم بعد أن تحول مسقط رأسه فى "سوق الحشيش" من بقعة إستنارة إلى مقر لأتعس قطيع مر على البشرية.. بات مرتعاً لأنصاف المجانين .. كان الصادق يزفر إحباطاً من مراوحة "العقل المحاط بالأسلاك الشائكة"، فكيف به إذا عاش ليراه يتقهقر بسرعة الصوت إلى واقع يذكّرنا بشهيرته "القرود"!.
_________________________
سبق لي نشر المقالة فى موقع "هنا صوتك".

عيسى عبدالقيوم

النشر بتاريخ الاربعاء الموافق 
2017/11/15

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قيل عن بــرقة "سُمع عمرو بن العاص يقول على المنبر في أهل برقة: هم أصحاب عهد إن عاهدوا".

صب المر كان المر طاب .. مفيش امر من فرق الأحباب

هذا زجاج من صحراء ليبيا غالي الثمن ومستكشف حديثا وله سمعة في سوق المعادن الثمينة