جدار السلطان 9 أكتوبر 2009 ...... يوسف أحمد العليقي
في سوق العجاج ـ أحد أحياء #طبرق ـ عاشت بقايا عظام و جلد من رجل كان يُدعى عبد الحكيم، لكنه بات ـ ذات ليلة بائسة ـ عبداً يركع و يسجد بين يديّ إبليس. بدا ذلك العبد كثَّ الشعر، غائرَ العينين، ترافقه كلما أقبل أو أدبر ريح نتنة، و يلقاه ليلُ الشتاء البارد يرتعد في أسمال بالية، و تراه كلُ الفصول يركضُ في شوارع السوق القذرة حافيَ القدمين، يتلفـَّت مذعوراً، و يعلو صوتـُه بالعواء مثل ذئب يعصره الجوع، ثم يأوي قبيل الفجر إلى جدار قديم بناه العثمانيون في عهد السلطان عبد الحميد و يبسط ذراعيه وينام فلا يستيقظ إلاّ عندما تقف الشمس فوق رأسه.
أفاق ذلك الذئبُ ذات يوم من أيام الخريف، فرفع رأسه و نظر إلى الشمس، فأعجبه حُسنُ اللقاء ِ بين السحاب و الشعاع، ورأى سرباً من الطيور المهاجرة تعبر الحيَ في اتجاه الخليج، و أحس انشراحاً في صدره، و عانق نفسَه شوقُ الحياة. فما لبث أن رآه بعضُ أهل السوق في المسجد يغتسل و يصلى صلاة العصر.
هاج شيطان سوق العجاج اﻷكبر ، فقام يسبُ الضوءََََََََ، و الغمامَ و الطيور. خرج مسرعاً من خندقه يجر ذيله غاضباً، فوقف في وسط السوق حين كانت الشمسُ تدنو للمغيب، و نادى بأعلى صوته و حشر أفواجاً من الإنس والجن، و أوقد له الجنود ناراً هائلة، و صفق له الحشدُ، و هتفوا حتى بُحت أصواتُهم، فاستطال العفريتُ حتى رأى المواطنين مثل النمل عند قدميه، و صاح إذ كان يلوح بالجمر و اللهب:
اسمعوا يا أيها الجن و اﻹنس :
- إني لن أسمح لأي كلب أن يجعل منى أضحوكة في الأرض، فليس بوسعي أن أتخلى عن سوق العجاج لحظة واحدة بسبب ركام من السحاب الكسول، و حزم من الشعاع العابث، أو قليل من ريش الطيور المضحك.
كان الجني الأخرق يرفع يديه، و يهز قرنيه ، و ينفث اللهيبَ من فمه حين كان عبد الحكيم واقفاً ينعكس عليه ضوءُ النار، عاقداً يديه علي صدره، و من ورائه بدا الأفقُ صافياً يزدان بالهﻻل . وقف هناك يتأمل الشيطانَ الغاضب، فطافت بخياله أشباحُ اللصوص يتخافتون قرب السوق الكبير. سمع اضطرامَ النار ، و تراقصت في ظلام القلب عفاريتُ اللَّهب. احترق السوق، و حمل له الهواء رائحة الرماد، فأحس بحزن غزير يهطل في أعماقه، و أطرق يفكر ثم راح يعدو مع القطرات فتطاير الماءُ من تحت قدميه، وما أوشكَ أن أخفاه الضباب ُو غسَّلَه البَرَدْ .
عند منتصف النهار حلّقت أسرابٌ من الطيور فوق السوق ، و مشتِ الشمسُ في موكب الضوء و السحاب إلى وسط السماء، و أصبح الجدارُ الكظيم و أمسى، و ما زال الظلُ يمتد حتى يغيبَ القرصُ العتيق، و ما زال الليلُ يزحف بطيئاً علي خرائب السوق ، و تخشع الأصواتُ إلاّ صوت الحكايات تسلي كلَ ليلة شهريار، حتى إذا أدركها الصباحُ، و صاح الديكُ سكتت عجائزُ الحي عن الكلام المباح.
يوسف أحمد العليقي
9 أكتوبر 2009
تعليقات
إرسال تعليق