برقة التاريخ السياسي (3) ... محمود شمام


كان ادريس السنوسي خليطا مدهشا من النزاهة والحكمة والدهاء . كان قارئا جيدا للتاريخ ومثقفا يتابع الأحداث بمنظار دقيق. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية وانقسم العالم الى معسكري الحلفاء والمحور اختار ان يمد يده للحلفاء ليس فقط لان إيطاليا كانت جزء من محور الشر بل لانه ادرك بحس المثقف الواعي والسياسي المتابع ان خطر النازية والفاشية على البشرية كبير. كان من القلائل من زعماء حركة التحرر العربي الذي اختار المعسكر الأكثر صحة. كان يعرف من متابعته اليومية ان الجيش الثامن بقيادة مونتغمري هو من سيسيطر على ليبيا فاختار ان يشكل الجيش السنوسي في ٩ اغسطس وان يدخل مقاتلا مع هذا الجيش واعتبر الوقوف متفرجا وجيوش الحلفاء تدخل ليبيا. لقد اختار البعض الاخر من الليبيين التردد بينما شكك البعض الاخر في حكمة الدخول مع الإنجليز دون تعهد مكتوب وكانت اجابة أدريس السنوسي ان الجيوش الزاحفة الى ليبيا لا تنتظرنا وبالتالي علينا محاولة التأثير في الحدث والمشاركة في صنعه.
نجح ادريس السنوسي في الحصول على استقلال برقة وانشا إمارة برقة واستعان بالخبرات الليبية التي كانت منتشرة في العالم العربي لم يمارس العزل السياسي ضد خصومه ولم يقل أنصاره على الخبرات القادمة عبر الحدود انهم "دبل شفرة" لم تكن الشفرة الليبية قد صنعت بعد.
اختار ادريس السنوسي بعد التشاور مع سكان برقة النظام البرلماني وكان يدرك حدة التناقضات الجهوية والقبلية ونقص التعليم وضالة الموارد الاقتصادية، ورغم ذلك شهدت تلك الفترة ما بين انشاء الإمارة واستقلال ليبيا ازدهارا أدبيا وسياسيا واعلاميا وجرت انتخابات حرة وشكلت الجمعيات السياسية . كان هناك الموتمر الوطني وجمعية عمر المختار ورابطة الشباب. اختار الزعماء السياسيون ان يتواجهوا عبر اللعبة السياسية. كانت جمعية عمر المختار الذي أسسها الشيخ الكوافي وتزعمها مصطفى بن عامر وبشير المغريبي في بنغازي وإبراهيم الأسطى عمر وَعَبَد الرازق شقلوف في درنة. وكانت الصحافة الحرة تتألق ممثلة لكل الاتجاهات جريدةًالوطن الذي كان يرأس تحريرها احمد رفيق المهدوي والدفاع الذي يرأس تحريرها صالح بويصير. كما كان من قيادات الرابطة منير البعباع وَعَبَد ربه الغناي. كما ظهرت صحيفة برقة الجديدة .
يقول خصوم ادريس السنوسي انه لم يسعى جديا لاستقلال ليبيا الموحدة وهذا غير صحيح فالمسألة الطرابلسية كانت معقدة وبعض القادة كانوا متأثرين بالتيار العروبي الذي كان يمثله حينذاك عبد الرحمن عزام امين الجامعة العربية. لقد فاوض ادريس السنوسي حينذاك الزعامات الطرابلسية بوفد من سكان برقة وليس من قبائل برقة وعلى راْسه السياسي الفذ عمر باشا الكيخيا"المصراتي" وكان من ضمن الوفد على ما اذكر منير البعباع " الورفلي "
و كان ادريس السنوسي يختار رجال إمارته ودولته فيما بعد بميزان دقيق. كان هناك التوازن ولم تكن هناك محاصصة. خلال حكمه لمدة ١٨ عاما. جاءت ٦ وزارات بقيادة شخصيات ترجع اصولها الى غرب ليبيا و ٤ بقيادة وزراء اصولهم من برقة وواحدة من فزان. وكان يختار وزرائه بدقة يجمع بين الحكمة والخبرة والصلابة والانفتاح والثقافة . لقد شغل الوزارة شعراء أفذاذ مثل بوسيف ياسين وحسين الغناي وعمر اجعودة ومعتوق آدم الرقعي واحمد فؤاد شنيب وَعَبَد الحميد البكوش ومثقفين كعبد المولى لنقي مؤسس مكتبة قورينا والفنان التشكيلي والموسيقي والشاعر فؤاد الكعبازي وغيرهم . كان ادريس السنوسي يتنقل في حديقة الوطن ويختار روؤساء الوزارت والوزراء ويقيلهم بميزان من ذهب. جاء برجل المواقف الصعبة محمود المنتصر مرتين في احلك الظروف ، غداة الاستقلال وعندما اهتز عرشه بعد احداث ٦٤. وبالمهندس مصطفى بن حليم بدهائه بعد ان أسقطت المحكمة العليا احد مراسيمه فنفذ الحكم وأقال محمد الساقزلي. وجاء داهية فزان بعد ان أقال عبد المجيد كعبار بعد ان راي البرلمان استفادة عبد الله عابد السنوسي من مشروع طريق فزان. وجاء لمحبي الدين فكيني سفيره في امريكا ليوقف ضغط شركات النفط المطالبة لحل مشكلة الازدواج الضريبي بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات. ثم جاء بعيد القادر البدري وحسين مازق لتتم مواجهةالاحداث الجسام التي توجت لهزيمة حزيران. ثم بالمحامي الشاب عبد الحميد البكوش الذي اطلق الامال بالشخصية الليبية. وحتى عندما اتخذ قراره بالتخلي عن العرش مهد لها باختيار شخصية ادارية وليست سياسية لإدارة الأزمة هو ونيس القذافي.
ارتكب ادريس السنوسي عدة اخطاء سياسية ربما أكثرها تأثيرا هي حل الجمعيات السياسية في أوائل الخمسينات وتأجيج العامل القبلي ضد مدينة بنغازي في خضم أزمة مظاهرات عام ١٩٦٤واخيرا عدم تسليمه الحكم لولي العهد عند مغادرته ليبيا قبل انقلاب سبتمبر. لقد فهم أديس السنوسي معادلة سكان برقة القائمة على التوازن بين الحضر والبدو ولم تخنه الا مرة واحدة في يناير ١٩٦٤ تحت ضغط الأحداث وجاء التصحيح حينذاك من قبيلة العبيدات الذي أعلن احد زعمائها وهو عبد القادر العلام وقوفه مع مطالب سكان بنغازي.وهو امر لابد وان يتناوله المؤرخين . يلتحق في البوست القادم على برقة تحت نظام القذافي.
ملحوظة: اي تعليقات جهوية او قبلية سوف تشطب ويحظر صاحبها.

محمود شمام
تاريخ النشر 2016/04/2

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قيل عن بــرقة "سُمع عمرو بن العاص يقول على المنبر في أهل برقة: هم أصحاب عهد إن عاهدوا".

صب المر كان المر طاب .. مفيش امر من فرق الأحباب

هذا زجاج من صحراء ليبيا غالي الثمن ومستكشف حديثا وله سمعة في سوق المعادن الثمينة