أتَعْلَمُ أمْ أنتَ لا تَعْلَمُ | بأنَّ جِراحَ الضحايا فمُ |
فَمٌّ ليس كالمَدعي قولةً | وليس كآخَرَ يَسترحِم |
يصيحُ على المُدْقِعينَ الجياع | أريقوا دماءكُمُ تُطعَموا |
ويهْتِفُ بالنَّفَر المُهطِعين | أهينِوا لِئامكمُ تُكْرمَوا |
أتعلَمُ أنَّ رِقابَ الطُغاة | أثقَلَها الغُنْمُ والمأثَم |
وأنّ بطونَ العُتاةِ التي | مِن السُحتِ تَهضِمُ ما تهضم |
وأنَ البغيَّ الذي يدعي | من المجد ما لم تَحُزْ " مريم " |
ستَنْهَدُّ إن فارَ هذا الدمُ | وصوَّتَ هذا الفمُ الأعجم |
فيا لكَ مِن مَرهمٍ ما اهتدَى | إليه الأُساة وما رهَّموا |
ويا لكَ من بَلسمٍ يُشتَفى | به حينَ لا يُرتجى بَلسم |
ويا لكَ من مَبسِمٍ عابسٍ | ثغور الأماني به تَبسِم |
أتعلمُ أنّ جِراحَ الشهيد | تظَلُّ عن الثأر تستفهِم |
أتعلمُ أنّ جِراحَ الشهيد | مِن الجُوعِ تَهضِمُ ما تَلهم |
تَمُصُّ دماً ثُم تبغي دماً | وتبقى تُلِحُ وتستطعِم |
فقُلْ للمُقيمِ على ذُلّهِ | هجيناً يُسخَّرُ أو يُلجَم |
تَقَحَّمْ ، لُعِنْتَ ، أزيزَ الرَّصاص | وَجرِّبْ من الحظّ ما يُقسَم |
وخُضْها كما خاضَها الأسبقون | وَثنِّ بما افتتحَ الأقدم |
فإِمَّا إلى حيثُ تبدو الحياة | لِعينيْكَ مَكْرُمةً تُغْنَم |
وإمَّا إلى جَدَثٍ لم يكُن | ليفضُلَه بيتُكَ المُظلِم |
تَقَحَّمْ ، لُعِنْتَ ، فما تَرتجي | مِن العيش عن وِرده تُحرَم |
أأوجعُ مِن أنَّك المُزدرى | وأقتلُ مِن أنَّك المُعدِم |
تقحَّمْ فمَنْ ذا يَخوضُ المَنون | إذا عافَها الأنكدُ الأشأم |
تقحَّمْ فمَنْ ذا يلومُ البطين | إذا كان مِثلُكَ لا يَقْحَم |
يقولون مَن هم أولاءِ الرَّعاعُ | فأفهِمْهُمُ بدَمٍ مَنْ هُم |
وأفهِمْهُمُ بدمٍ أنَّهمْ | عَبيدُكَ إنْ تَدْعُهمْ يَخدُموا |
وأنَّك أشرفُ من خيرِهمْ | وكعبُك مِن خدهِ أكرم |
أخي " جعفراً " يا رُواء الربيع | إلى عَفِنٍ باردٍ يُسلَم |
ويا زَهرةً من رياض الخُلود | تَغوَّلها عاصفٌ مُرزِم |
ويا قبَساً من لهيب الحياة | خَبا حين شبَّ له مَضْرَم |
ويا طلعةَ البِشر اذ ينجلي | ويا ضِحكةَ الفجر إذ يَبسِم |
لَثَمْتُ جراحكَ في " فتحةٍ " | هي المُصحَف الطُهرُ إذ يُلثَم |
وقبَّلتُ صدرَك حيثُ الصَّميم | مِن القلب ، مُنْخَرقاً ، يُخرَم |
وحيثُ تَلوذُ طيورُ المُنى | به فهىَ ، مُفزعَةً ، حُوَّم |
وحيثُ استقرَّت صِفاتُ الرجال | وضَمَّ معادِنَها مَنجَم |
وَرَّبتُّ خدّاً بماءِ الشباب | يرفُّ كما نوّر البُرعُم |
ومَّسحتُ مِن خُصَلٍ تَدَّلي | عليه كما يَفعلُ المُغرم |
وعلَّلتُ نفسي بذوب الصديد | كما علَّلتْ وارداً " زمزم " |
ولقَّطتُ مِن زَبدٍ طافحٍ | بثَغرك شهداً هو العَلْقَم |
وعوَّضتَ عن قُبلتي قُبلةً | عَصَرْتَ بها كلَّ ما يؤلِم |
عَصَرْتَ بها الذكرياتِ التي | تقَضَّتْ كما يَحْلُمُ النُوَّم |
أخي " جعفراً " إنّ رجعَ السنين | بَعْدَك عندي صَدىً مُبْهم |
ثلاثونَ رُحْنا عليها معاً | نعذَّبُ حِيناً ونستنعِم |
نُكافحُ دهراً ويستَسْلِمُ | ونُغلبُ طَوراً ونَسْتَسلِم |
أخي " جعفراً " لا أقولُ الخَيال | وذو الثأرِ يَقْظانُ لا يَحلُم |
ولكنْ بما أُلهِمَ الصابرون | وقد يقرأُ الغيبَ مُستَلهِم |
أرى أُفُقاً بنجيع الدماءِ | تَنوّرَ واختفتِ الأنجُم |
وحبلاً من الأرض يُرقى به | كما قذفَ الصاعدَ السُلَّم |
إذا مدَّ كفّاً له ناكث | تصدَّى ليقطَعها مُبْرِم |
تكوَّر من جُثَثٍ حوله | ضِخامٍ وأمجادُها أضخم |
وكفّاً تُمدُّ وراء الحجاب | فترسُمُ في الأفْقِ ما ترسُم |
وجيلاً يَروحُ وجيلاً يجيء | وناراً إزاءَهما تُضرَم |
أُنبِّيكَ أنّ الحِمى مُلْهَبٌ | وواديه من ألمٍ مُفعَم |
ويا وَيْحَ خانقةٍ مِن غدٍ | إذا نَفَّسَ الغدُ ما يَكظم |
وأنّ الدماءَ التي طلَّها | مُدِّلٌّ بشُرطتهُ مُعرم |
تَنَضَّحُ من صدرِك المُستطاب | نزيفاً إلى الله يَستظلِم |
ستبقى طويلاً تَجُرُّ الدماء | ولَنْ يُبرِدَ الدمَ إلاّ الدم |
وأنَّ الصدورَ التي فلَّها | وأبدعَ ! في فلِّها مُجْرم |
ونَثَّرَ أضلاعها نَثْرةَ | شَتاتاً كما صُرّفَ الدرهم |
ستَحْضُنُها من صُدور الشباب | قُساةٌ على الحقِ لا ترحم |
أخي " جعفراً " إنّ عِلَم اليقين | أُنبِّيكَ إنْ كنتَ تستعلِم |
صُرِعْتَ فحامتْ عليك القلوب | وخفَّ لك الملأُ الأعظَم |
وسُدَّ الروُُاقُ ، فلا مَخرجٌ | وضاقَ الطريقُ ، فلا مَخرم |
وأبلغَ عنك الجَنوبُ الشَّمال | وعزَّى بك المُعرِقَ المُشئِم |
وشَقَّ على " الهاتفِ" الهاتفون | وضجَّ من الأسطُرِ المرِقَم |
تعلَّمتَ كيف تَموتُ الرجال | وكيف يُقامُ لهمْ مأتَم |
وكيف تُجرُّ إليك الجموعُ | كما انجرَّ للحَرمِ المُحرِم |
ضحِكتُ وقد هَمْهَمَ السائلون | وشقَّ على السمعِ ما همهموا |
يقولون مِتَّ وعند الأساةِ | غيرَ الذي زَعَموا مَزعَم |
وأنتَ مُعافى كما نرتجي | وأنت عزيزٌ كما تعلَم |
ضحِكتُ وقلتُ هنيئاً لهم | وما لفَّقوا عنك أو رجَّموا |
فهم يبتغون دماً يشتفي | به الأرمدُ العينِ والأجذم |
دماً يُكذِبُ المخلصونَ الأباة | به المارقينَ وما قسَّموا |
وهم يبتغونَ دماً تلتقي | علية القُلوب وتستَلئم |
إلى أنْ صَدَقْتَ لهمْ ظَنَّهم | فيا لكَ من غارِمٍ يَغنَم |
فهمْ بك أولى فلَّما نَزَل | كَجِذْرٍ على عَددٍ يُقسم |
وهم بك أولى ، وإن رُوِّعت | " عجوزٌ " على فِلذةٍ تلطِم |
وتكفُرُ أنَ السما لم تعد | تُغيثُ حَريباً ، ولا تَرْحَم |
وأُختٌ تشقُّ عليك الجيوب | فيغرَزُ في صدرها مِعصَم |
تناشِدُ عنك بريقَ النُّجوم | لعلَّك مِن بينها تنجُم |
وتَزْعُمُ أنَّك تأتي الصَّباحَ | وقد كذَّبَ القبرُ ما تَزْعُم |
لِيَشْمَخْ بفقدِكَ أنفُ البلاد | وأنفي وأنفُهم مُرغم |
أخي " جعفراً " بعُهود الاخاءِ | خالصةً بيننا أُقسِم |
وبالدمع بَعدَكَ لا يَنثني | وبالحُزنِ بَعدَكَ لا يُهزم |
وبالبيتِِ تَغمرُهُ وحشةٌ | كقبركَ يَسأل هل تقدَم |
وبالصحب والأهلِ " يستغربون " | لأنَّك منحرفٌ عنهم |
يميناً لتَنهَشُني الذكريات | عليك كما يَنهش الأرقم |
إذا عادني شبحٌ مفرحٌ | تصدَّى له شبحٌ مؤلِم |
وأنّي عُودٌ بكفِّ الرياحِ | يسأل منها متى يُقصَم |
أخي " جعفراً " وشجونُ الأسي | ستَصرِم حبلي ولا تُصرَم |
أزحْ عن حَشاك غُثاء الضمير | ولا تكتُمَنّي ، فلا أكتُم |
فانْ كانَ عندكَ مِن مَعتَبٍ | فعندي أضعافُه مَنْدَم |
وإن كنتَ فيما امتُحِنَّا به | وما مسَّّّنا قَدَرٌ محْكَم |
تُخَرِّجُ عُذراً يُسلّي أخاً | فأنت المدِلُّ به المُنعِم |
عصارةُ عُمرٍ بشتّى الصنُوف | مليءٍ كما شُحِنَ المُعْجم |
به ما أُطيقُ دفاعاً به | وما هو لي مُخْرِسٌ مُلجِم |
أسالتْ ثراك دموعُ الشباب | ونوَّر منك الضريحَ الدم |
تعليقات
إرسال تعليق