أنت تبتسم أيضاً ...... محمد الأصفر
الخمسة قروش التي سرقتُها من جيب أبي ما زلت أذكرها. أذكر أيضا أني اشتريتُ بها قلماً. لا شك أن أبي اكتشف السرقة. ومتأكد جدا أنه رأى القلم. لقد كان أبي إنساناً، فلم يسألني عن القلم، ومن أين جاء، لكنه همس لي قائلاً: نون والقلم وما يسطرون. ذلك اليوم عاد أبي من العمل مساء، ووجدني مريضاً محموماً.
أخذني إلى عيادة خاصة قريبة من جامع عبدالله عابد. دكتور مصري أعطاني حقنة مؤلمة، وعدت مع أبي أعرج قليلا واستند إليه. كان أبي يلبس جاكيتة كاكية جيوبها الجانبية واسعة، جاكيت من مخلّفات الحرب العالمية الثانية تباع في سوق التركة قرب الفندق البلدي. وأنا أستند إليه، أدخلتُ يدي في جيب الجاكيت، طلباً لبعض الدفء، فوجدتُ الجيب يشكشك بالنقود. خرجت يدي بقطعة معدنية واحدة، كانت دافئة رغم انها معدن. كمشتُ عليها، وفي أول فرصة دسستُها في جيبي. في الصباح اشتريتُ القلم، في المساء شاهده أبي في يدي. كان قلماً جميلاً، لم آخذه معي إلى المدرسة. أُخرجه كل ليلة، وعلى ضوء الفنار، أكتب به عناوين الدروس فقط، أما الدروس نفسها فبالقلم العادي الذي اسمه بيك. قال لي المدرّس: هل هناك من يساعدك أو يكتب لك؟ خط العنوان غليظ ويختلف عن بقية الواجب (الفرض). قلت له أبي أمّي لا يقرأ ولا يكتب، ألم ترني ذلك اليوم في حديقة سيدي حسين (الآن بجانبها مطعم حميده فاصوليا وعمارات الكعب العالي) أقرأ لأبي جريدة الحقيقة؟ هو قلم خاص احتفظ به في البيت. في عيد المعلم أهديته إليه، وصار يوقّع به في سجل حضور المدرّسين الموضوع على طاولة قرب المشرف المرحوم ابراهيم طرينة. كنت صغيراً لكن أقرأ وأكتب من دون أخطاء إملائية. جدّي لأمي كان فقيهاً في جامع يعلّمني كثيراً قبل دخولي المدرسة النظامية، وكنت أستوعب منه جيداً. ذات عشية أخذني أبي في نزهة الى حديقة سيدي حسين، كانت الرياح متحركة قليلاً، وأتت بصفحة جريدة أمام رجلَي أبي، فرفعها وناداني: تعال اقرأ "شنو في هالكاغط". كانت بها صورة جمال عبد الناصر والملك إدريس ودعايات لسيارات ولسلع تجارية أخرى، وقرأت له العناوين العريضة، وهو يبتسم، وقرأت له بعض التفاصيل وهو يبتسم. أنا أقرأ ولا أفهم. هو يفهم ولا يقرأ. هو يبتسم. أنا أبتسم. أنت تبتسم أيضاً.
تعليقات
إرسال تعليق